حين تشفى النظرية ويبقى المريض كما هو
العراق بين فرضيات علي الوردي وتشخيص قيس الخزعلي
كلّ الأمم، التي تمرض فكرياً، تحتاج إلى من يشخّصها، لا إلى من يحكي عنها، ولأننا أمةٌ تحبّ الحكاية أكثر من الحقيقة، فقد عشنا عقوداً ونحن نقرأ (علي الوردي) كأنه نبيّ علم الاجتماع، لا ككاتبٍ يحاول فهم الناس بلغة الانفعال
حين صدر بحث الشيخ قيس الخزعلي بعنوان "جدلية فرضيات الوردي وآرائه في طبيعة المجتمع العراقي"، لم يكن مجرد كتابٍ جديد، بل حدثاً ثقافياً يُعيد اختبار العقل العراقي، من ناحية هل نحب الحقيقة أم الأصنام؟، ولقد ظنّ كثيرون أن الوردي فوق النقد، وأن الخزعلي تجاوز “الخط الأحمر”.
والدكتور علي الوردي، رغم موهبته في الكتابة، لم يكن باحثاً صارماً بقدر ما كان حكواتيّاً موهوباً، لكونه كتب عن المجتمع العراقي كما يكتب الروائي سيرة شعبٍ غاضب، فخلط بين التشخيص والانفعال، وبين الظاهرة والذنب، لهذا رسم ثنائية البداوة والمدنية كأنها قدرٌ أبدي، وابتكر “ازدواجية الشخصية العراقية” كأنها لعنة جينية.
ولكن من يقرأ علم الاجتماع المقارن يدرك أن هذه الظواهر موجودة في كل مكان، من باريس إلى البصرة، ومن شيكاغو إلى الكوفة، مع الفرق أن الوردي جعلها نظريات قومية، بينما هي في الحقيقة حالات بشرية.
وأمّا الشيخ قيس الخزعلي، فاقترب من الوردي من حيث لا يجرؤ الآخرون، كونه اقترب بعين الباحث لا بعين المريد، وقرأ الوردي بعقلٍ باردٍ، وفكّك فرضياته دون حقدٍ ولا تمجيد، ومن هنا قدّم نموذجاً جديداً للعقل العراقي، باعتباره رجل دينٍ مارس البحث الأكاديمي، لا ليُدين بل ليُدقّق، ولأن الحقيقة لا ترضي العواطف، انطلقت الجموع تدافع عن الوردي لا عن العلم، وكأنها تدافع عن أبٍ رمزيٍّ لا يُمسّ.
والمفارقة أن الخزعلي امتلك ما لم يمتلكه الوردي، باعتبار أن لديه تجربة دينية، وساحة سياسية، وممارسة بحثية، أي أنه قرأ الإنسان العراقي من زوايا متعددة، التي لم يجرؤ الوردي على الوقوف فيها، ولهذا جاء بحثه كخطوة في اتجاه “تحرير الفكر من الورديّة”، أي من تلك الخلطة العاطفية، التي جعلت العراقي يفكّر بالوجدان أكثر مما يفكّر بالعقل.
ومن الظلم أن يتحوّل الوردي إلى تابوتٍ فكري، ومن الشجاعة أن يأتي من يفتحه، فالذين يهاجمون الشيخ قيس الخزعلي اليوم لا يدافعون عن الوردي، بل عن كسلهم في التفكير، ومن يخاف من النقد إنما يخاف من نفسه.
وقد آن للعقل العراقي أن يخرج من تحت رماد الوردي، ويدخل مختبر الخزعلي، فالأمم لا تنهض بالحكايات، بل بالمراجعات، والفكر، الذي لا يُمحَّص، يتحوّل إلى موروثٍ من الغبار.
